حرصت إمارة دبي، ودولة الإمارات بشكل عام، على ترسيخ منظومة قانونية مرنة، تضمن عبر أدواتها وتشريعاتها سيادة القانون وإعلاء قيم العدالة الناجزة، وتضمن في الوقت ذاته تهيئة كل السبل التي تعزز حل النزاعات بين أطرافها من خلال الطرق البديلة للتقاضي، ومنها الوساطة باعتبارها وسيلة رضائية لحل النزاع عبر وساطة احترافية حيادية بين أطرافه تأتي ضمن إجراءات قانونية.
مشروع طَموح
وتماشيًا مع نهج حكومة دبي، وضعت دائرة الشؤون القانونية لحكومة دبي ضمن أولوياتها دعم كافة الطرق البديلة للتقاضي، حيث أطلقت منذ عام 2022 مشروعًا طموحًا متعدد المحاور والمراحل، يهدف إلى تفعيل وتعزيز الوساطة في حل النزاعات المدنية والتجارية في إمارة دبي، من خلال شراكة فاعلة مع المركز الأوروبي (ADR Center) المتخصص في الوساطة.
وتضمنت محاور المشروع تطوير قدرات الكوادر البشرية بالدائرة في مهارات الوساطة، ورفع كفاءة إجراءاتها وفق أفضل الممارسات العالمية، ونقل خبراتها وبناء قدرات الجهات الحكومية والمجتمع القانوني ومجتمع المال والأعمال في مجال الوساطة في المنازعات المدنية والتجارية، مع التعريف والتوعية المجتمعية بأهمية وكيفية استخدامها كوسيلة فعالة لحل المنازعات في ضوء المنظومة القانونية القائمة، بما يمهّد لإطار عملي متكامل يواكب التطورات التشريعية والعالمية، ويحقق مستهدفات الإمارة.
برامج تدريبية وتأهيلية
ونظرًا للنجاح اللافت الذي حققه البرنامج، نظمت الدائرة بالتعاون مع الشريك الدولي، المركز الأوروبي (ADR Center)، ست دفعات من البرنامج التدريبي العملي على مهارات الوساطة في المنازعات المدنية والتجارية، المعتمد دوليًّا من قِبل المؤسسة الدولية للوساطة، والذي عقد باللغة الإنجليزية، وكذلك باللغة العربية للمرة الأولى عالميًّا، وقد استفاد من هذا البرنامج (168) متدربًا، من بينهم (86) من موظفي الجهات الحكومية بإمارة دبي، الأمر يعزز الدور المركزي للدائرة في رفع الوعي بالمهارات القانونية التي ترتبط بالتوجهات الحكومية، كما شمل البرنامج (23) متدربًا من مزاولي المهن القانونية من مكاتب المحاماة والاستشارات القانونية المقيدين لدى الدائرة، حرصًا منها على النهوض بدورها في تطوير مهارات هذا القطاع، بما يسهم في تهيئة المناخ الملائم لتعزيز دور الوساطة بديلًا عن التقاضي، وتحفيز قطاع الأعمال والاستثمار على استخدام الوساطة؛ وهو الذي لوحظ انعكاسه على الجولة الأخيرة من البرنامج التدريبي، حيث كان من ضمن الفئات الملتحقة عدد من الأشخاص من قطاع المال والأعمال.
التأهيل النوعي
وقد اجتاز (144) من المتدربين التأهيل على مهارات الوساطة وفق معايير المؤسسة الدولية للوساطة (IMI)، منهم (53) من موظفي الدائرة، وقد ارتقى (13) موظفًا منهم إلى الاعتماد الأعلى الذي تقدمه هذه المؤسسة بناءً على خبرة متراكمة من خلال إنجاز (200) ساعة في مجال الوساطة أو التعامل مع (20) منازعة، وحصلوا على الاعتماد الدولي كوسطاء في المنازعات المدنية والتجارية عقب الخضوع للتقييم من قبل مجموعة من الخبراء الدوليين.
وتعد الدائرة بهذا الإنجاز النوعي الجهة الوحيدة على مستوى المنطقة العربية وشمال أفريقيا التي يتوفر لديها هذا العدد من الوسطاء الحاصلين على الاعتماد الأساسي والاعتماد الدولي في الوساطة الأعلى مهنيًّا في هذا المجال، كما تعد الجهة الوحيدة عالميًّا التي لديها فريق ناطق باللغة العربية كلغة أولى، حاصل على هذا الاعتماد الدولي، بالإضافة إلى تحدُّث الوسطاء المعتمدين خمس لغات أخرى.
دور توعوي
لم يقف دور الدائرة على عقد الشراكات الدولية وإطلاق البرامج التدريبية التأهيلية الداعمة لقدراتها والجهات الحكومية، وإنما عملت على زيادة الوعي بأهمية الوساطة، والدعوة إلى تبنّيها وكيفية تطبيقها في حل المنازعات، حيث نظمت ورشتين معرفيتين استهدفتا المجتمع القانوني، استفاد منهما أكثر من (600) قانونيّ، وذلك للتعريف بماهية الوساطة وأهميتها كإحدى وسائل حل المنازعات التي تهيئ مرونة وفعالية في إنهاء المنازعات وديًّا إضافة إلى اختصار الوقت وتوفير النفقات.
كما تضمنت الورشتان المعرفيتان اللتان عقدتهما الدائرة، التعريف بالإطار التشريعي المنظم للوساطة في دولة الإمارات، حيث صدر، في إطار هذه الجهود، القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 2021 في شأن الوساطة لتسوية المنازعات المدنية والتجارية، وفي عام 2023 حل محله المرسوم بقانون اتحادي رقم (40) لسنة 2023 في شأن الوساطة والتوفيق في المنازعات المدنية والتجارية الذي ينظم الوساطة القضائية والوساطة الاتفاقية.
فعاليات دولية
وحرصًا منها على تعزيز قدراتها المعرفية في مجال الوساطة، من خلال تبادل الخبرات والاطلاع على أفضل الممارسات الإقليمية والدولية، بالإضافة إلى مشاركة ونقل تجربتها في هذا الشأن، شاركت الدائرة كمتحدث رئيس، في مؤتمر دولي شهدته إمارة دبي في مارس من العام الماضي، على مدار يومين، والذي نظمته مؤسسة وينشتاين الأمريكية [DAMN1] غير الهادفة للربح، والتي تعنى بتعزيز ممارسة الوساطة على مستوى العالم، حيث استهدفت جلساته سبل تعزيز ثقافة الوساطة في المنازعات، وتوطيد أواصر التعاون لتطوير ممارساتها.
كما شاركت الدائرة كمتحدث رئيس في جلسات منتدى «نحو بيئة تشاركية لتسوية النزاعات» الذي نظمته وزارة المالية لتفعيل بيئة تشاركية لحل المنازعات، وتعزيز الأطر التنظيمية التي تسهم في وجود تعاون بين القطاعين العام والخاص لتطوير مهارات وممارسات الحلول البديلة للتقاضي بشكل فعال ومبتكر، حيث عرضت الدائرة ممارستها في حل المنازعات التي تكون فيها الحكومة أو الجهات الحكومية طرفًا باستخدام مهارات الوساطة، وما أنجزته باستخدام تلك الوسيلة من نجاحات، وكذلك جهود الدائرة في تدريب وتطوير وتأهيل موظفي الجهات الحكومية المحلية للاستفادة من تلك المهارات، بما يتماشى مع توجهات حكومة دبي في سعيها لأن تكون مركزًا عالميًّا في فض المنازعات بالطرق البديلة للتقاضي.
مقارنات معيارية
ويرتبط بجهود الدائرة وحرصها على المشاركة في الفعاليات الدولية وتبادل الخبرات، إجراء مقارنات معيارية للوقوف على مدى اتساق إجراءاتها مع أفضل الممارسات العالمية المتبعة في مجال الوساطة في فض المنازعات، حيث تجري الدائرة مقارنة معيارية لعملياتها الداخلية التي تستخدم فيها الوساطة في المنازعات مع مركز (ADR) الأوروبي، كما شرعت في مقارنة معيارية مع المؤسسة الدولية للوساطة (IMI)، بالإضافة إلى مشاركتها في البرنامج التنفيذي للمقارنات المرجعية الذي يرعاه برنامج دبي للتميز الحكومي لإجراء المقارنة المعيارية لأحد محاور المشروع، وذلك تمهيدًا للاستفادة من الخبرات المقارنة في توفير إطار عملي قادر على تفعيل ممارسة الوساطة في المنازعات المدنية والتجارية في إمارة دبي، وفق أفضل الممارسات العالمية بنهاية العام الحالي.
وتهدف الدائرة من هذه المقارنات إلى الانفتاح على التجارب المتميزة، واستمرارية التعلُّم المؤسسي الذي يضمن تطوير الإجراءات والممارسات، وقياس أثرها من خلال النتائج المستهدف تحقيقها، وفق متطلبات جودة الأداء، وهو ما يحقق قيم التنافسية العالمية التي تعد أحد الأسس في العمل الحكومي بإمارة دبي، وأداة مهمة في تحقيق الريادة، لينعكس ذلك كله في تمكين ناجح لممارسات الوساطة في المنازعات، وتقديم خدمات قانونية حكومية متميزة.
منازعات وأرقام
وأوضحت الدائرة أن هناك العديد من المنازعات التي مارست فيها الدائرة دور الوسيط بناءً على طلبات وردت إليها، وانتهت بحل النزاع ارتضاءً دون الوصول إلى مرحلة التقاضي أو التحكيم، ومنها منازعات إنشاء مشاريع البنية التحتية، ومنازعات التطوير العقاري للأراضي والمسطحات، ومنازعات مشروعات البناء والمقاولات، وعقود التكنولوجيا، والملكية الفكرية، والمنازعات التجارية ذات الطابع الدولي، إلى غير ذلك من المجالات، وحققت فيها الدائرة نتائج إيجابية كان من شأنها تزايد الطلب على خدماتها مما يعكس احترافيتها وتميزها في الوساطة.
وقد تجاوزت قيمة المنازعات التي أجرت فيها الدائرة الوساطة أكثر من (3) مليارات درهم، خلال عام 2023 وحتى نهاية يونيو 2024م؛ وهو ما يعكس فاعلية تبنّي هذا الخيار القانوني وأهميته لطرفي النزاع على حد سواء.
مرونة وفاعلية
من جهته، أوضح سعادة الدكتور لؤي محمد بالهول، مدير عام الدائرة، أن الدائرة قد وضعت ضمن أولويات خطتها الاستراتيجية تمكين الطرق البديلة للتقاضي في النزاعات التي تقع في نطاق اختصاصاتها، بهدف المساهمة في خطط وتوجهات حكومة دبي، ومنها تمكين الوساطة في حل المنازعات، من خلال منظومة قانونية متكاملة ومرنة تضمن بفاعليتها الحقوق وتهيئة البيئة القانونية التي تتفق مع مكانة دبي الاستثمارية العالمية.
وأشار سعادة د. بالهول إلى أن الدائرة تبنّت منذ عام 2022 مشروعًا للوساطة يقوم على مستهدفات واضحة ضمن مراحل زمنية محددة، تبدأ بتطوير قدراتها البشرية من خلال الشراكات الاستراتيجية واكتساب الخبرات التي تتفق مع أفضل الممارسات المعمول بها عالميًّا، والمساهمة في بناء قدرات المجتمع القانوني من مزاولي المهن القانونية، والقانونيين العاملين بالجهات الحكومية، عبر تطوير منهج تدريبي احترافي يتناسب مع ثقافة ولغة المجتمع، ويعمل على إيجاد أفضل الخيارات في تأهيل القدرات والحصول على الاعتماد الدولي، لممارسة احترافية للوساطة في إمارة دبي، يتوازى مع ذلك الجهد التأهيلي، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الوساطة في حل المنازعات المدنية والتجارية كإحدى البدائل الفعالة للتقاضي، وهو ما يضمن ممارسةً عمليةً لهذا الاختيار القانوني المهم الذي يلبي رؤية القيادة الرشيدة، ويلتقي مع توجيهات حكومة دبي في بناء القدرات وترسيخ الشراكات وتبادل الخبرات لتوفير بيئة قانونية مرنة وفاعلة تدعم مكانة دبي العالمية في القطاع الاستثماري بشكل خاص ومختلف القطاعات بشكل عام.
وأكد سعادة الدكتور بالهول على الدور الجوهري الذي تلعبه الوساطة في حل النزاعات، سواء من خلال اختصار الوقت وسرعة حل المنازعات مقارنة مع الوقت الذي قد تستغرقه طبيعة مراحل ودرجات التقاضي أو التحكيم، وكذلك توفير التكاليف المالية التي قد يتحملها الطرفان في أتعاب المحاماة والرسوم القضائية والتكاليف المرتبطة بالتحكيم، وتوفير حلول لا متناهية للمنازعات لا تقف عند حد المطالبات المالية ولكن قد تمتد إلى عقد صفقات وشراكات بين المتنازعين، فضلاً عن أهميتها في الحفاظ على العلاقات بين طرفي النزاع، بما يتيح فرصة لضمان استمرار التعاون المستقبلي، وهو ما ينعكس إيجابًا على سعادة أطراف النزاع بخلاف ما قد يكون عليه الحال في نتيجة التقاضي أو التحكيم.